الدّعاء هو سؤال أكرم الأكرمين، والرّغبة فيما يدي أرحم الرّاحمين، إنّه سؤال من لا يردّ السّائلين، ويستحي أن يردّ عباده وقاصديه خائبين ..
وهو نداء وسؤال ومناجاة الرّحمن الرّحيم، والتضرّع بين يدي البرّ الكريم
فمن فضائل الدّعاء
الفضل الأوّل: أنّ الله أمر به، وحضّ عباده عليه، فقال تعالى في كتابه وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: من الآية60]، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة:186]، وقال: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[الأعراف:55]
الفضل الثّاني: وهو أنّ الدّعاء من أسباب معيّة الله تعالى.
فقد روى البخاري ومسلم-واللّفظ له-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي )).
الفضل الثّالث: حصر العبادة في الدّعاء.
فقد روى أبو داود، والتّرمذي-واللّفظ له- عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ )). ثُمَّ قَرَأَوَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: الآية60] أي: أذلاّء مهانين ".
وأسلوب الحصر يدلّ على شرف المحصور، كقوله صلى الله عليه وسلم : (( الحَجُّ عَرَفَةُ )) [أخرجه أهل السّنن والإمام أحمد]، مع أنّ الحجّ يشتمل على أعمال أخرى، ولكنّه جعل الوقوف بعرفة أعظم مناسك الحجّ، فكذلك العبادة تشتمل على أعمال وأقوال كثيرة، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الدّعاء على رأسها، بل جرى القرآن الكريم على تسمية الدّعاء عبادة والعبادة دعاء، ومنه الآية الّتي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60]، ومثله قوله تعالى قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً) [الفرقان:77].. فقد فسّر قوله تعالى ( لولا دعاؤكم ) في أحد القولين بالعبادة ..
فقد روى التّرمذي وابن ماجه عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(( لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ )).
ومعنى وصف النبيّ صلى الله عليه وسلم الدّعاء بأنّه أكرم شيء على الله، بأنّ أهل الدّعاء أكرم الخلق عليه، فيكرمهم ويثيبهم أكثر من غيرهم، فالله أكرم الأكرمين، وأهل الدّعاء أكرم النّاس عليه، فاجتمع هذا وذاك فلك أن تتصوّر ثواب الدّعاء.
ولو لم يكن في الدّعاء إلاّ رقّة القلب لكفى، قال تعالى منكرا على المشركين قساوة قلوبهم وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)) [الأنعام].
لذلك نرى المولى تبارك وتعالى لا يأمر بالدّعاء فقط، ولكن بالإلحاح والعزم واليقين وعلوّ الهمّة في الدّعاء:
أمّا الإلحاح فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دعا دعا ثلاثا، ويطيل الدّعاء رافعا يديه حتّى يقع الرّداء من على كتفيه.
أمّا اليقين: فقد روى التّرمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(( ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ )).
وأمّا العزم: فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ! اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ !" لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ )).
وأمّا علوّ الهمّة: ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم (( إِذَا سَأَلْتُمْ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ )).
الفضل الرّابع: أنّ الدّعاء ذخر لأوقات البلاء..
روى التّرمذي والحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرَبِ، فَلْيُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ فِي الرَّخَاءِ )).
فقد جعله بمثابة العُدّة الّتي تُعدّ لصدّ العدوّ، والعبد لا شكّ أنّه يعلم أنّ حياته لن تخلُو من منغّصات ومفرحات، وشدائد ومسرّات، ونقم ونعم، فكيف انقسم العباد في ذلك إلى أصناف ثلاثة:
صنف يعرف الله في الرّخاء ليعرفه الله في الشدّة، فيكون وقت الشدّة أشدّ تقرّبا إليه، كما في وصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم لابن عبّاس رضي الله عنه ، وهؤلاء يوصيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يُكثروا من الدّعاء وقت الرّخاء، بأن يسألوا الله خير الدّنيا والآخرة، وأن يسألوه العفو والعافية.
وصنف لا يعرف الله وقت الرّخاء، وإنّما يعرفه وقت الشّدائد، كما أخبر الله عن المشركين الأوائل، )فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت:65]، وقال: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُم) [يونس: من الآية23]..
الصّنف الثّالث: فرضي أن يكون حاله أحطّ من حال المشركين، فصاروا يغفلون عن الدّعاء وقت الشّدائد، فلا تسل عن حالهم وقت الرّخاء، أو ربّما لجأوا وقت الشّدائد إلى غير الله تعالى..
ويدخل تحت هذا الباب أذكار اليوم واللّيلة والرّقى، فمن أراد الله تعالى أن يذكره ويعصمه ويقيه شرّ كلّ مؤذٍ فعليه أن يذكر الله ويرقي نفسه وقت الرّخاء، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الفضل الخامس: أنّه من موجبات المغفرة. ولا يخفى على أحدٍ فضلُ الاستغفار، وأنّه ليس بين العبد ومحو ذنوبه إلاّ أن يستغفر الله تعالى، والاستغفار دعاء، وتأمّل ما رواه التّرمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (( قَالَ اللَّهُ [تَبَارَكَ وَتَعَالَى]: يَا ابْنَ آدَمَ ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي )).
فقوله عز وجل : (( إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي )) أي: سأغفر لك يا عبدي ما كان فيك مدّة استغفارك ورجائك مغفرتي.
بل إنّ هذا الدّعاء يتعدّى لمن مع الدّاعي وإن لم يدعُ بدعائهم: (( قالوا: يا ربّ ! فيهم فلان عبد خطّاء إنّما مرّ فجلس معهم. قال: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم )).
الفضل السّادس: أنّه مجاب لا محالة.
فقد روى التّرمذي-واللّفظ له-، والحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَسْأَلَةٍ، إِلَّا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَهَا لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ )).
وفي مسند أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( مَا عَلَى الْأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ ))، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: ((اللَّهُ أَكْثَرُ)) أي الله أكثر إجابة من دعائكم، وهو لا يملّ حتّى تملّوا، فلا تعجزونه في الاستكثار، فإنّ خزائنه لا تنفذ وعطاياه لا تفنى.
الفضل السّابع: أنّ الدّعاء يخفّف القضاء، أو يردّه.
وذلك لما رواه التّرمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنها قَالَ: ...وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ )).
وروى التّرمذي عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ رضي الله عنه ، وابن حبّان والحاكم عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (( لاَ يَرُدُّ القَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَلاَ يَزِيدُ فِي العُمُرِ إِلاَّ البِرُّ ..
الثّالث: ما ذكره ابن تيمية رحمه الله أنّ المقدّر نوعان، مقدّر لا يبدّل وهو المكتوب في اللّوح المحفوظ، لا يطّلع عليه أحد من خلقه عز وجل، ونوع هو مكتوب في صحف لدى الملائكة، وتعطاه الملائكة كلّ عام ليلة القدر، (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).. فإذا دعا العبد ربّه، أو وصل رحمه، خفّف القضاء أو مُحِي في صحف الملائكة، وبذلك يوافق ما كتبه الله في اللّوح المحفوظ، وهذا معنى قوله تعالى يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد:39].
الفضل الثّامن: من فضائل الدّعاء: أنّ الله يستحي أن يردّ داعيه.
روى أبو داود والتّرمذي وابن ماجه عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ )).
وإنّ الأمر لم يقف إلى حدّ أن استحيى الله من داعيه، ولكنّه يغضب من ترك دعائه.
الفضل التّاسع: أنّ الله تعالى يغضب عز وجل على من ترك دعاءه..
ذلك جاء في " سنن التّرمذي " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ )).
( من نزلت به فاقة ): أي حاجة شديدة، وأكثر استعمالها في الفقر، وضيق المعيشة ( فأنزلها بالنّاس ) أي عرضها عليهم وأظهرها بطريق الشّكاية لهم، وطلب إزالة فاقته منهم، والمقصود من اعتمد في سدّها على سؤالهم، ولم يسأل الله تعالى قبلهم، وذلك لأنّ ربط قلبه بالأسباب دون مسبّب الأسباب. ( لم تسد فاقته ) أي لم تقض حاجته ولم تزل فاقته، أو كلّما سدّت حاجته أصابته أخرى أشدّ منها.
أمّا من ( أنزلها بالله ) بأن اعتمد على مولاه وذلك بسؤاله والإلحاح في ذلك، فذلك لا ريب في صدق توكّله، وأنّ العباد صاروا بين يديه بمثابة الأسباب فقط، كما قال عبد الله بن المبارك لأحد أمراء زمانه: أمّا بعد فقد رفعت أمري إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن شاء الله أجبتنا، وإلاّ أغنانا الله من فضله. لذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : (( فيوشك الله له ) أي يسرع له ويعجّل له ( برزق عاجل ) إن كانت المصلحة في تأجيله ( أو آجل ).
وروى أبو داود والتّرمذي وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ، لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ )).
لذلك على المسلم أن يكثِر من سؤال الله الهداية والثّبات عليها، وعليك بدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم : (( يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك وطاعتك )).
سبحان الله وبحمده , عدد خلقه .. ورضا نفسه وزنة عرشه ..ومداد كلماته